صمت الأطفال… لغة الفقد التي لا تُترجم
في كل صباحٍ دراسي حين تُفتح نوافذ الفصول على يومٍ جديد، تبدأ الحكاية ذاتها بمشاهد متكررة: ضحكاتٌ عالية هنا، وصمتٌ ثقيل هناك، ذلك الصمت الذي يمر بهدوء في زوايا الصف، ليس خجلًا دائمًا، ولا انطواءً عابرًا وإنما في أحيانٍ كثيرة يكون لغة ألم لا تُفهم، ورسالة لا تجد من يقرأها.
الطفل لا يصمت عبثًا؛ فخلف كل صمتٍ قصة، وخلف كل ابتسامةٍ صامتة مساحةٌ من الفقد لم تُرمَّم بعد، بعض الأطفال يحملون على أكتافهم أثقالًا تفوق أعمارهم: فقد أبٍ أو أم، اضطرابات أسرية، عزلة، أو حتى شعور مزمن بأنهم غير مرئيين.
وحين يدخلون المدرسة يكونون في أول مواجهة مع العالم، فيختبرون فيها أول درسٍ عن الثقة والأمان.
ولهذا فإن المدرسة ليست مكانًا للتعلم فقط، بل هي بيئةٌ نفسيةٌ متكاملةٌ إما أن تُرمم ما انكسر، أو تُعمق ما فُقد.
المعلم الواعي في الميدان يدرك أن أكثر ما يُرهق الطفل ليس المنهج ولا الواجبات، بل الإحساس بأن صوته لا يسمع، فالطفل الذي يخاف من الخطأ لن يتعلم، والذي يخشى السخرية لن يتحدث.
وهنا يتجلى دور المعلم الحقيقي: ليس في تصحيح الخطأ، بل في بناء الثقة التي تجعل الطفل يجرؤ على المحاولة، فحين ينادي المعلم الطالب باسمه بابتسامة، أو يصغي إليه دون استعجال، فإنه لا يمنحه مجرد لحظة راحة، وإنما يعيد إليه جزءًا من شعوره بالوجود. لكن "المدرسة وحدها لا تكفي".
إن صمت الطفل هو مرآة لواقعٍ أوسع يبدأ من الأسرة وينعكس على الميدان، فحين ينشأ الطفل في بيئة لا تُصغي إليه، ولا تمنحه حق التعبير، يصبح صمته درعًا يحميه من الإحراج أو الرفض.
ولهذا فإن تفعيل التعاون بين البيت والمدرسة ضرورة لا خيارًا، لأن احتواء الطفل يحتاج إلى رؤية تربوية مشتركة تقوم على "الفهم قبل الحكم"، و"الإصغاء قبل التصحيح".
ولكي نحول هذا الوعي إلى ممارسة يمكن أن تبدأ المعالجة بخطوات واقعية داخل المدارس:
- أن نخصص في الأسبوع حصة "للتعبير" عما يدور داخل هذا الطفل.
- أن نُدرّب المعلمين على مهارات التواصل النفسي مع الأطفال.
- أن نوفر للأطفال مساحة آمنة للحوار تُعزز الثقة وتكشف عن احتياجاتهم قبل أن تتحول إلى صعوبات.
وحين تنجح مدارسنا في جعل الكلام امتدادًا للأمان، نكون قد تجاوزنا مرحلة التعليم إلى مرحلة التكوين.
فالتعليم لا يبدأ من المنهج، بل من الإصغاء، ولا يكتمل بالشرح، بل بالاحتواء.
سامر حميد مستور المعبدي