حين يتكلم الغياب ،الفقد العاطفي بين الحضور واللا حضور

الموضوع :
حين يتكلم الغياب ،الفقد العاطفي بين الحضور واللا حضور

✍️بقلم: هيفاء محمد العجمي

في حياة كل إنسان لحظات لا تُنسى، ليس لأنها جميلة بالضرورة، بل لأنها غيّرت شيئًا في أعماقه.
الفقد أحد تلك اللحظات، لكنه لا يأتي دائمًا في هيئة رحيلٍ جسدي، بل أحيانًا يتسلّل في شكل غيابٍ عاطفيٍّ بارد، حضورٌ بلا دفء، وصوتٌ بلا إصغاء.

الفقد العاطفي هو التجربة التي يعيشها من يجد نفسه محاطًا بالناس، لكنه يشعر بالوحدة.
من يتحدث كثيرًا، لكن لا يجد من يفهم ما وراء كلماته.
إنه فقد الأمان، لا فقد الأشخاص.

???? الغياب الذي لا يُرى

في ظاهر الأمر، يبدو كل شيء طبيعيًا: البيت عامر، المدرسة قائمة، والأصدقاء كُثر.
لكن في الداخل، هناك مساحات من الصمت لم تُفسَّر بعد.
صمت الأب المشغول، أو الأم المتعبة، أو المعلم المستعجل، أو الصديق الذي لا يسأل.
كلها صور مختلفة للفقد العاطفي الذي لا يُعلن عن نفسه، لكنه ينتزع من الروح شعورها بالطمأنينة والانتماء.

في إحدى الدراسات النفسية الحديثة، وُجد أن غياب الدعم الوجداني في الطفولة يترك أثرًا طويل المدى على الصحة النفسية حتى مرحلة الرشد،
إذ يصبح الفرد أكثر عرضة للقلق والعزلة، وأقل قدرة على بناء علاقات مستقرة.
ليس لأن الفقد يُضعف، بل لأنه يهزّ البنية الأعمق في النفس: الإحساس بالأمان.

???? بين الأسرة والمدرسة
الفقد العاطفي لا يُعالج بالكلمات، بل بالحضور.
فالطفل الذي لا يجد من يصغي إليه في البيت، سيبحث عن أذنٍ تسمعه في المدرسة،
وإن لم يجدها هناك، سيبحث عنها في الصمت أو في العالم الافتراضي.
وهنا يبدأ أخطر أشكال الفقد: أن يختار الإنسان العزلة لأنها أكثر أمانًا من الناس.

تُظهر الأبحاث التربوية الحديثة أن العلاقة الإيجابية بين المعلم والطالب تُعدّ عاملاً حاسمًا في استقرار الطفل النفسي والأكاديمي،
فكلمة تشجيع واحدة أو نظرة تفهّم، قد تعيد للطفل ثقته التي فقدها في بيئته الأولى.

????️ كيف نعيد للروح دفئها؟
ليس المطلوب أن نمنع الفقد، فهو جزء من الحياة، بل أن نتعامل معه بوعي ورحمة.
حين نتحدث عن الفقد العاطفي، فإننا نتحدث عن حاجة الإنسان إلى أن يُرى ويُفهم ويُحتوى.
وإعادة الأمان تبدأ بخطوات بسيطة لكنها عميقة:
أن نصغي أكثر، نحكم أقل، ونسأل: “كيف تشعر؟” بدل “لماذا فعلت؟”.
أن نُعيد تعريف القوة بأنها القدرة على الاعتراف، لا الإنكار.

???? لأن الفقد ليس نهاية

الفقد العاطفي لا يعني نهاية العلاقات، بل بداية إدراك جديد لمعناها.
حين يتعلّم الإنسان أن يحزن بطريقة صحية، وأن يطلب المساندة دون خجل،
يتحوّل الفقد من وجعٍ إلى وعي، ومن نهايةٍ إلى نضج.

ولعل أعظم ما يمكن أن نفعله تجاه من فقدوا دفء العاطفة هو أن نكون لهم حضورًا صادقًا،
نسمع حين يصمتون، ونرى ما لا يُقال،
لأن بعض القلوب لا تُشفى بالحديث… بل بالاحتواء.

فليس كل غيابٍ فقدًا،
لكن كل فقدٍ يترك وراءه صمتًا ينتظر من يفهمه.

???? من زاوية علمية
يُفسّر علم النفس الحديث هذه الظاهرة من خلال نظرية الدعم الاجتماعي (Social Support Theory)،
التي ترى أن الإنسان لا يتعافى وحده، بل من خلال شبكة من العلاقات الداعمة التي توفر له الأمان العاطفي والاعتراف بمشاعره.
كما تلتقي هذه النظرية مع نظرية النسق الأسري (Family Systems Theory) التي تؤكد أن الأسرة والمدرسة والمجتمع دوائر مترابطة،
وأي خلل في التواصل بينها ينعكس مباشرة على الاستقرار النفسي للفرد.

ولهذا فإن بناء ثقافة الإصغاء، وإدراج مهارات “الدعم الوجداني” ضمن البرامج التربوية،
يُعدّ من أقوى أدوات الوقاية من الفقد العاطفي وآثاره طويلة المدى
حين يتكلم الغياب ،الفقد العاطفي بين الحضور واللا حضور
تبرع سريع