(البعد العلاجي لأعمال النسيج ومقاومة الفقد)

(البعد العلاجي لأعمال النسيج ومقاومة الفقد)

طالما كانت الإبرة رفيقة الإنسان في ترميم ما تمزّق؛ سواء في قطعة ثوب، أو وسادة قديمة، أو ستارة تتدلّى من ذاكرة بيت. غير أنّ هذا الخيط الرفيع الذي يشدّ بين طرفين، لا يرمم الأقمشة فحسب، بل يرمم القلوب أيضًا. فالإبرة تصدر صوتًا خفيًا لا يُسمع بالأذن، بل يُحسّ بالقلب؛ صوتٌ يشبه الهمس بين الذات وجراحها، وبين الذاكرة وما تبقّى منها.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن أشغال النسيج بمختلف أشكالها – من الخياطة والتطريز إلى الحياكة وصناعة الدانتيل – تمتلك أثرًا نفسيًا عميقًا في تعزيز الصحة النفسية والرفاهية، خصوصًا لدى النساء. فهذه الممارسات ليست مجرد أنشطة فنية، بل وسائط علاجية تعبّر من خلالها النساء عن ذواتهن، وتجدن فيها مساحة آمنة لإعادة الاتصال بأنفسهن بعد الصدمات أو الفقد.
وتؤكد الأبحاث أن أعمال الإبرة تُسهم في رفع تقدير الذات والشعور بالإنجاز، كما تساعد على تنمية مهارات التواصل الاجتماعي وبناء الإحساس بالانتماء. فيما يخلق الإيقاع المتكرر لحركة الغرز حالة من الصفاء الذهني تشبه التأمل، تُخفّف من القلق وتُعيد للذهن توازنه. إنها عملية تُعيد نسج الداخل كما يُعاد نسج القماش، فيتحول العمل اليدوي إلى طقسٍ من الترميم النفسي.
 
في المجتمعات النسائية، كانت الإبرة دومًا وسيلة لتبادل الحكايات، ونافذةً للتعبير حين يخنق الصمت الكلام. واليوم، يمكننا أن ننظر إليها كأداة لمقاومة التهميش والعزلة، ووسيلة لإحياء العلاقة بين الفن والعلاج. فحين تلتقط المرأة الإبرة وتبدأ في الحياكة، فهي في الحقيقة تخيط حكايتها الخاصة، وتعيد ترميم خيوط روحها الممزقة بخيوطٍ من أملٍ جديد..
لقد أثبتت التجارب الميدانية في برامج الفن العلاجي أن ممارسة التطريز تساعد الأفراد الذين مرّوا بتجارب فقدٍ أو صدماتٍ نفسية على إعادة بناء ذواتهم عبر التعبير الرمزي بالألوان والغرز والملامس. .
اليوم، نحن بحاجة إلى أن نعيد حياكة ذواتنا كما نعيد حياكة الأقمشة القديمة، بخيوطٍ أكثر وعيًا، وصبرًا، وجمالًا. فصوت الإبرة ليس مجرد نغمة عمل، بل نداء داخلي نحو الشفاء، واستعادة القدرة على العيش من جديد.

د. ابتسام العتيبي
تبرع سريع